فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذْنِ الله}.
اتفق أكثر المفسرين على أن المراد من الكتاب القرآن وعلى هذا فالذين اصطفيناهم الذين أخذوا بالكتاب وهم المؤمنون والظالم والمقتصد والسابق كلهم منهم ويدل عليه قوله تعالى: {جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد: 23] أخبر بدخولهم الجنة وكلمة {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} أيضًا تدل عليه لأن الإيراث إذا كان بعد الإيحاء ولا كتاب بعد القرآن فهو الموروث والإيراث المراد منه الإعطاء بعد ذهاب من كان بيده المعطى، ويحتمل أن يقال المراد من الكتاب هو جنس الكتاب كما في قوله تعالى: {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 25] والمعنى على هذا: إنا أعطينا الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء ويدل عليه أن لفظ المصطفى على الأنبياء إطلاقه كثير ولا كذلك على غيرهم لأن قوله: {مِّنْ عِبَادِنَا} دل على أن العباد أكابر مكرمون بالإضافة إليه، ثم إن المصطفين منهم أشرف منهم ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالمًا مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمي الشرك ظلمًا، وعلى الوجه الأول الظاهر بين معناه آتينا القرآن لمن آمن بمحمد وأخذوه منه وافترقوا {فَمِنْهُمْ ظالم} وهو المسيء {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} وهو الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} وهو الذي أخلص العمل لله وجرده عن السيئات، فإن قال قائل كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى إنه ظالم؟ مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع، فنقول المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ويصحح هذا قول عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ظالمنا مغفور له» وقال آدم عليه السلام مع كونه مصطفى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتبار الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق، وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله ولا يضع فيه غير محبة الله، وفي المراتب الثلاث أقوال كثيرة: أحدها: الظالم هو الراجح السيئات والمقتصد هو الذي تساوت سيئاته وحسناته والسابق هو الذي ترجحت حسناته ثانيها: الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه، والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه، والسابق من باطنه خير ثالثها: الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد عن التوحيد ورابعها: الظالم صاحب الكبيرة، والمقتصد صاحب الصغيرة، والسابق المعصوم خامسها: الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل بموجبه، والمقتصد التالي العالم، والسابق التالي العالم العامل سادسها: الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم سابعها: الظالم أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابق السابقون المقربون ثامنها: الظالم الذي يحاسب فيدخل النار، والمقتصد الذي يحاسب فيدخل الجنة، والسابق الذي يدخل الجنة من غير حساب تاسعها: الظالم المصر على المعصية، والمقتصد هو النادم والتائب، والسابق هو المقبول التوبة عاشرها: الظالم الذين أخذ القرآن ولم يعمل به والمقتصد الذي عمل به، والسابق الذي أخذه وعمل به وبين للناس العمل به فعملوا به بقوله فهو كامل ومكمل، والمقتصد كامل والظالم ناقص، والمختار هو أن الظالم من خالف فترك أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للشيء في غير موضعه، والمقتصد هو المجتهد في ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر منه ذنب وصدر عنه إثم فإنه اقتصد واجتهد وقصد الحق والسابق هو الذي لم يخالف بتوفيق الله ويدل عليه قوله تعالى: {بِإِذْنِ الله} أي اجتهد ووفق لما اجتهد فيه وفيما اجتهد فهو سابق بالخير يقع في قلبه فيسبق إليه قبل تسويل النفس والمقتصد يقع في قلبه فتردده النفس، والظالم تغلبه النفس، ونقول بعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ومن جاهد نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقصد ومن قهر نفسه فهو السابق وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} يحتمل وجوهًا أحدها: التوفيق المدلول عليه بقوله: {بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير}، ثانيها: السبق بالخيرات هو الفضل الكبير ثالثها: الإيراث فضل كبير هذا على الوجه المشهور من التفسير، أما الوجه الآخر وهو أن يقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي جنس الكتاب، كما قال تعالى: {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 25] يرد عليه أسئلة أحدهما: ثم للتراخي وإيتاء الكتاب بعد الإيحاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن فما المراد بكلمة ثم؟ نقول معناه إن الله خبير بصير خبرهم وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب كأنه تعالى قال إنا علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر فاصطفينا عبادًا ثم أورثنا الكتاب، ثانيها: كيف يكون من الأنبياء ظالم لنفسه؟ نقول منهم غير راجع إلى الأنبياء المصطفين، بل المعنى إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلًا وآتيناهم كتبًا، ومنهم أي من قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ومقتصد آمن بك ولم يأت بجميع ما أمرته به وسابق آمن وعمل صالحًا وثالثها: قوله: {جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد: 23] الداخلون هم المذكورون وعلى ما ذكرتم لا يكون الظالم داخلًا، نقول الداخلون هم السابقون، وأما المقتصد فأمره موقوف أو هو يدخل النار أو لا ثم يدخل الجنة والبيان لأول الأمر لا لما بعده، ويدل عليه قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [الكهف: 31] وقوله: {أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34].
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)}.
وفي الداخلين وجوه أحدها: الأقسام الثلاثة وهي على قولنا أن الظالم والمقتصد والسابق أقسام المؤمنين والثاني: الذين يتلون كتاب الله والثالث: هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله: {يُحَلَّوْنَ} فالمكرم هو السابق وعلى هذا فيه أبحاث:
الأول: تقديم الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقيًا كقولنا: الله خلق السموات، وقول القائل: زيد بنى الجدار فإن الله موجود قبل كل شيء، ثم له فعل هو الخلق، ثم حصل به المفعول وهو السموات، وكذلك زيد قبل البناء ثم الجدار من بنائه، وإذا لم يكن المفعول حقيقيًا كقولنا زيد دخل الدار وضرب عمرًا فإن الدار في الحقيقة ليس مفعولًا للداخل وإنما فعل من أفعال تحقق بالنسبة إلى الدار، وكذلك عمرو فعل من أفعال زيد تعلق به فسمي مفعولًا لا يحصل هذا الترتيب، ولكن الأصل تقديم الفاعل على المفعول ولهذا يعاد المفعول المقدم بالضمير تقول عمرًا ضربه زيد فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة، فما الفائدة في تقديم الجنات على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكر بالهاء في يدخلونها، وما الفرق بين هذا وبين قول القائل يدخلونها جنات عدن؟ نقول السامع إذا علم أن له مدخلًا من المداخل وله دخول ولم يعلم عين المدخل فإذا قيل له أنت تدخل فإلى أن يسمع الدار أو السوق يبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون، فإذا قيل له دار زيد تدخلها فبذكر الدار، يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأن له دخولًا يعلم الدخول فلا يبقى له توقف ولاسيما الجنة والنار، فإن بين المدخلين بونًا بعيدًا الثاني: قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجًا لكان فيه تأخير الدخول فقال: {يَدْخُلُونَهَا} وفيها تقع تحليتهم الثالث: قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} بجمع الجمع فإنه جمع أسورة وهي جمع سوار، وقوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل إلا على الغنى الرابع: ذكر الأساور من بين سائر الحلي في كثير من المواضع منها قوله تعالى: {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] وذلك لأن التحلي بمعنيين أحدهما: إظهار كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال لأن التحلي لا يكون حالة الطبخ والغسل وثانيهما: إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء وذلك لأن التحلي إما باللآلىء والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المتحلي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكبيرة عند الحاجة حيث يعجز عن الوصول إلى الأشياء القليلة الوجود لا لحاجة، والتحلي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع الحاجة، إذا عرفت هذا فنقول الأساور محلها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإنها للبطش، فإذا حليت بالأساور علم الفراغ والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحلي.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
في الحزن أقوال كثيرة والأولى أن يقال المراد إذهاب كل حزن والألف واللام للجنس واستغراقه وإذهاب الحزن بحصول كل ما ينبغي وبقائه دائمًا فإن شيئًا منه لو لم يحصل لكان الحزن موجودًا بسببه وإن حصل ولم يدم لكان الحزن غير ذاهب بعد بسبب زواله وخوف فواته، وقوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} ذكر الله عنهم أمورًا كلها تفيد الكرامة من الله الأول: الحمد فإن الحامد مثاب الثاني: قولهم {ربنا} فإن الله لم يناد بهذا اللفظ إلا واستجاب لهم، اللهم إلا أن يكون المنادي قد ضيع الوقت الواجب أو طلب ما لا يجوز كالرد إلى الدنيا من الآخرة الثالث: قولهم: {غَفُورٌ}، الرابع: قولهم: {شَكُورٍ} والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بما وجد لهم من الحمد في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم ويزيد لهم بسبب ما وجد لهم في الآخرة من الحمد.
ثم قال تعالى: {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} أي دار الإقامة، لما ذكر الله سرورهم وكرامتهم بتحليتهم وإدخالهم الجنات بين سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها حيث قالوا: {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} أي الإقامة والمفعول ربما يجيء للمصدر من كل باب يقال ما له معقول أي عقل، وقال تعالى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] وقال تعالى: {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وكذلك مستخرج للاستخراج وذلك لأن المصدر هو المفعول في الحقيقة، فإنه هو الذي فعل فجاز إقامة المفعول مقامه وفي قوله: {دَارَ المقامة} إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومنها إلى منزلة العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق.
وقد تكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار المقامة، وكذلك النار لأهلها وقولهم {مِن فَضْلِهِ} أي بحكم وعده لا بإيجاب من عنده.
وقوله تعالى: {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} اللغوب الإعياء والنصب هو السبب للإعياء فإن قال قائل إذا بين أنه لايمسهم فيها نصب علم أنه لا يمسهم فيها لغوب ولا ينفي المتكلم الحكيم السبب، ثم ينفي مسببه بحرف العطف فلا يقول القائل لا أكلت ولا شبعت أو لا قمت ولا مشيت والعكس كثير فإنه يقال لا شبعت ولا أكلت لما أن نفي الشبع لا يلزمه إنتفاء الأكل وسياق ما تقرر أن يقال لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة، فنقول ما قاله الله في غاية الجلالة وكلام الله أجل وبيانه أجمل، ووجهه هو أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن الدنيا أماكنها على قسمين: أحدهما: موضع نمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري والطرقات والأراضي والآخر: موضع يظهر فيه الإعياء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار من الخانات فإن من يكون في مباشرة شغل لا يظهر عليه الإعياء إلا بعدما يستريح فقال تعالى: {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي ليست الجنة كالمواضع التي في الدنيا مظان المتاعب بل هي أفضل من المواضع التي هي مواضع مرجع العي، فقال: {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي، لا نخرج منها إلى مواضع نتعب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وقرىء {لُغُوبٌ} بفتح اللام والترتيب على هذه القراءة ظاهر كأنه قال لا نتعب ولا يمسنا ما يصلح لذلك، وهذا لأن القوي السوي إذا قال ما تعبت اليوم لا يفهم من كلامه أنه ما عمل شيئًا لجواز أنه عمل عملًا لم يكن بالنسبة إليه متعبًا لوقته، فإذا قال ما مسني ما يصلح أن يكون متعبًا يفهم أنه لم يعمل شيئًا لأن نفس العمل قد يصلح أن يكون متعبًا لضعيف أو متعبًا بسبب كثرته، واللغوب هو ما يغلب منه وقيل النصب التعب الممرض، وعلى هذا فحسن الترتيب ظاهر كأنه قال لا يمسنا مرض ولا دون ذلك وهو الذي يعيا منه مباشرة. اهـ.

.قال القرطبي:

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فيه أربع مسائل:
الأولى: هذه الآية مشكلة؛ لأنه قال جل وعز: {اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} ثم قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
قال النحاس: فمن أصح ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: الكافر؛ رواه ابن عُيَيْنة عن عمرو ابن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضًا.
وعن ابن عباس أيضًا {فَمِنْهُمْ ظَالِم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قال: نجت فرقتان، ويكون التقدير في العربية: فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه؛ أي كافر.
وقال الحسن: أي فاسق.
ويكون الضمير الذي في {يَدْخُلُونَهَا} يعود على المقتصِد والسابق لا على الظالم.
وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفرّاء أن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التّقي على الإطلاق.
قالوا: وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً} الآية.
قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم ورواه مجاهد عن ابن عباس.
قال مجاهد: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أصحاب المشأمة، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} أصحاب الميمنة، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} السابقون من الناس كلهم.
وقيل: الضمير في {يَدْخُلُونَهَا} يعود على الثلاثة الأصناف، على ألا يكون الظالم هاهنا كافرًا ولا فاسقًا.
وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء، وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة، والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر والمقتصد قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها؛ فيكون {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} عائدًا على الجميع على هذا الشرح والتبيين؛ وروي عن أبي سعيد الخدري.
وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم وربّ الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناجٍ.
وروى أسامة بن زيد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: «كلهم في الجنة» وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابِقُنا سابق ومُقْتَصِدُنا ناجٍ وظالمنا مغفور له» فعلى هذا القول يقدّر مفعول الاصطفاء من قوله: {أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} مضافا حُذف كما حذف المضاف في {واسأل القرية} [يوسف: 82] أي اصطفينا دينهم، فبقي اصطفيناهم؛ فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ} [هود: 31] أي تزدريهم، فالاصطفاء إذًا موجه إلى دينهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} [البقرة: 132].
قال النحاس: وقول ثالث: يكون الظالم صاحبَ الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته؛ فيكون: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} للذين سبقوا بالخيرات لا غير.
وهذا قول جماعة من أهل النظر؛ لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى.
قلت: القول الوسط أوْلاها وأصحها إن شاء الله؛ لأن الكافر والمنافق لم يصطفَوا بحمد الله، ولا اصطفى دينهم.
وهذا قول ستة من الصحابة، وحسْبُك.
وسنزيده بيانًا وإيضاحًا في باقي الآية.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْرَثْنَا الكتاب} أي أعطينا.
والميراث عطاء حقيقةً أو مجازًا؛ فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر.
و{الكتابَ} هاهنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة، فكأنه ورّث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا.
{اصطفينا} أي اخترنا.
واشتقاقه من الصفو، وهو الخلوص من شوائب الكدر.
وأصله اصتفَوْنا، فأبدلت التاء طاء والواو ياء.
{مِنْ عِبَادِنَا} قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وغيره.
وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأُوَل لم يرثوه.
وقيل: المصطفَوْن الأنبياء، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر، قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16]، وقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فإذا جاز أن تكون النبوّة موروثة فكذلك الكتاب.
{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} من وقع في صغيرة.
قال ابن عطية: وهذا قول مردود من غير ما وجه.
قال الضحاك: معنى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أي من ذرِّيَّتهم ظالم لنفسه وهو المشرك.
الحسن: من أممهم، على ما تقدّم ذكره من الخلاف في الظالم.
والآية في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق، فقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل.
وقال ذو النون المصري: الظالم الذاكر الله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه.
وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال.
وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفًا من النار، والمقتصد الذي يعبد الله طمعًا في الجنة، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب.
وقيل: الظالم الزاهد في الدنيا، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظًا وهي المعرفة والمحبة، والمقتصد العارف، والسابق المحب.
وقيل: الظالم الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد الصابر على البلاء، والسابق المتلذذ بالبلاء.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة.
وقيل: الظالم الذي أُعْطِيَ فمنَع، والمقتصد الذي أُعْطِيَ فبذَل، والسابق الذي مُنع فشكر وآثر.
يروى أن عابِدَيْن التقيا فقال: كيف حال إخوانكم بالبصرة؟ قال: بخير، إن أُعطوا شكروا وإن مُنعوا صبروا.
فقال: هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ! عُبَّادنا إن مُنعوا شكروا وإن أُعطوا آثروا.
وقيل: الظالم من استغنى بماله، والمقتصد من استغنى بدينه، والسابق من استغنى بربه.
وقيل: الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به، والسابق القارىء للقرآن العامل به والعالِم به.
وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذّن، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة؛ لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصِّل لها ما حصَّله غيره.
وقال بعض أهل العلم في هذا: بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة، فهو أولى بالظلم.